متمهلاً يمشي .. وخوف الناس في عينيه كالمبضعْ
|
وطحالبٌ في ضَفّتيه تمصُّ صرخته فلا يُسمعْ
|
متوجعاً ينسالُ ،
|
بردته تكنِّس أرض شارعنا من الضوضاء
|
يمتص أحزان الصغار ، ويشرب الأوجاعَ لا يَشْبَعْ
|
والصخر يهجر قاسيون إليه مندفعاً
|
يُشقق راحتيه على الضفاف ولا يَمسُّ الماء
|
يحمرّ وجه النهر في حَنَقً يسيرُ بدمعه مُتْرَعْ
|
فإلى متى تتيمّم الأشجار عند الضفة الخضراء ؟
|
والرمل يشرب منه لا يُروى
|
وفي بَطَر أتت تتوضأ الصحراء
|
يمضي .. بَجرُّ عنانَه قلق
|
ويلطمه على خديه ما ينمو من الأشواكْ
|
فيكمِّم الأمواج مذعوراً
|
يهدهد هامساً لينوِّم الأسماكْ
|
وعلى رمال القاع في حذر تحفّى
|
سال تحت المرجة الخرساء
|
ويرد ياقته على عينيه ، يخفي الوجهَ
|
نرقبه ولا تتحرك الأيدي تُودِّعه
|
وفي توديعه تتلكأ الأضواء
|
ويمسُّ أرض الغوطة الخجلى فيرتعشانْ
|
يتعانقان بلهفةٍ
|
ويراقبان ظلال أشجار الطريق
|
ليسرقا بعض الهوى أو يطفآ الأحزانْ
|
ويجوس فيها مولعاً ويصبُّ فيها كل طاقته فلا تَقْنَعْ
|
الخوف أضحى لهفة .. حطباً لنار التوق
|
حتى النارُ أضحت زادها ،
|
التهمت لهيبَ النار غوطتنا
|
فلم نبصر لحبهما لهيباً
|
لم نلاق دخانْ
|
وعلى تعرج أرضها استلقى أسىً
|
رمحاً بغير سنانْ
|
سيروح منها خاوياً ليصير مُسْتَنْقَعْ
|
يتباطأ المجرى ..
|
يعرّج خطوه صوب الظلال
|
وينثني إعياء
|
الرمل بعد حدودها يَلْمَعْْ
|
وبراثن الصحراء لا تغفو
|
وفي شبق للقياهْ
|
بدت تتلمظ الرمضاء
|
***
|
كانت له ذكرى وذاكرة
|
وكان لديه ما يكفي من الإيمانْ
|
في الشعر غرَّدَ مُدْنفاً
|
فجرى وصفّق باسماً
|
لاقى الضيوف وأنزل الركبانْ
|
بدأ الحياة بقفزة نحو الحياةِ
|
ومرَّ بين الصخر كي يَرْضَعْ
|
ومضى ليلهوَ في السهوبِ
|
كما انثنى ليداعب الوديانْ
|
التربة الحمراء أولدها جناناً
|
أولد الصحراء حُوراً
|
عبّأ الأفياءَ بالولدانْ
|
لكنها ذكرى وذاكرة بلا أسماء
|
فلقد تراكم غيظه ..
|
لما تداوله جنون بنيه والأعداء
|
قفز الضفاف محاذراً بقميصه الممسوك بالأسنانْْ
|
ومضى إلى سوق المدينة وحده نزقاً
|
يكسِّر ما يصادفه ،
|
ويحرق ما يصادفه بلا حسبانْ
|
يجري وصفّارات بوليس المدينة خلفه
|
وسلالم الإطفاء
|
ليعاد مخفوراً إلى المجرى
|
***
|
متمهلاً يمضي .. وقد أضحى بلا طاقه
|
متمهلاً والدمع محقون بعينيه
|
طعنوه مراتً فلم يُصرعْ
|
قسموه سبعة أنهر
|
في كل نهر عذّبوه ،
|
وجرّحوا بالحقد خديه
|
قلعوا أظافره ، وما تركوا على كفٍّ له إصْبَعْ
|
فصدوا دماه وأبعدوها
|
غيّروا عينيه ،
|
لموا منه سحنته وأوراقَهْ
|
في كل مجرىً جفّفوه ، وجرّبوا بالسر إحراقَهْ
|
حقنوه بالأقذار ، دسّوا فيه ذاكرة بلا ذكرى
|
دسّوا عليه هوية أخرى
|
قنّوه في باحاتهم
|
وتسامروا ليلاً على أنّاته
|
غسلوا به الأقدام والمخدَعْ
|
وتداولوه فقطّعوه وأرجعوا الأشلاء للمجرى
|
فبكى قليلاً
|
لو رموه إلى الظلام مكبلاً لم يرتجف ذعراً
|
لو سلّموه لبائس يَزْرَعْ
|
لو أنّهم تركوه في الصحراء أخصبها
|
وأنبتها نخيلاً .. أوجهاً سمرا
|
لو أهملوه ، لشقَّ درباً حيثما يبغي
|
لأمرع في الصحارى جنة خضرا
|
لو شغّلوه بقسوةً
|
لم يبكهم
|
لم يرتجف بالقهر كالأسرى
|
لكنه حمل الدموع ، وسار في صمت
|
وفاجأهم بأن الماء لم يُصرَع
|
وجرى إلى الصحراء يخبرها
|
بأن النهر قد يدمى وقد يُقطَعْ
|
قد يستحيل بحيرةً
|
قد يستحيل سحابةً
|
قد يلتوي قهراً
|
لكن هذا النهر ، إذ عشقته أرض الشام
|
أو حضنته غوطتها
|
فلن يَخْضَعْ
|
قد ينحني إن مرت الأنوار تصفعه
|
لكنه إذ ينحني
|
حتى يمسَّ الأرض
|
لا يركعْ |