موسم الهجرة إلى الشمال
Feb 20, 2022 04:35 PM Feb 20, 2022 04:35 PM
(جزء من رواية موسم الهجرة إلى الشمال ) - ١ عدت الى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة ،سبعة اعوام على وجه التحديد ) كنت غلالها أتعلم في أوربا . تعلمت الكثير، وغاب عني الكثير ، لكن تلك قصة أخرى. المهم انني عدت وبي شوق عظيم الى أهلي في تلك القرية الصفيرة عند منحنى النيل . سبعة أعوام و أنا أحن اليهم وأحلم بهم ، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة ان وجدتني حقيقة قائما ببنهم ، فرحوا بي وضجوا حولي ، ولم يمض وقت طويل حتى احسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي ، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة ، فقدته زمانا في بلاد «تموث من البرد حيتانها» . تعودت أذناي أصواتهم ، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة ، قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب ، أول وهلة رأيتهم . لكن الضباب راح ، وأستيقظت ثاني يوم وصولي ، في فراشي الذي أعرفه في الغرفة التي تشهد دراها على ترهات حياني في طفولتها ومطلع شبابها و رخيت أذني للريح . ذاك لعمري موت أعرفه ، له في بلدنا وشوشة مرحة . صوت الريح وهي تمر بالنخل غيره وهي تمر بحقول القمح. وسمعت هديل القمري ، ونظرت خلال النافذة الى النخلة القائمة في فناء دارنا ، فعلمت ان الحياة لا تزال بخير ، أنظر الى جذعها القوي المعتدل ، والى عروقها الضاربة في الارض ، والى الجريد الاخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة . أحس انني لست ريشة في مهب الريح ، ولكني مثل تلك النخة، مخلوق له أصل، له جذور له هدف. وجاءت أمي تحمل الشاي . وفرغ أي من صلاته وأوراده فجاء . وجاءت أختي ، وجاء اخواي، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث ، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة . نعم الحياة طيبة ، والدنيا كحالها لم تتغير . فجأة تذكرت وجها رأيته بين المستقبلين لم أعرفه . سألتهم عنه ، ووصفته لهم . رجل ربعة القامة ، في نحو الخمسين أو يزيد قليلا ، شعر رأسه كثيف مبيض ، ليست له لحية وشاربه أصغر قليلا من شوارب الرجال في البلد . رجل وسيم . وقال أبي: « هذا مصطفى » مصطفى من ؟ هل هو أحد المغتربين من ابناء البلد عاد ؟ وقال أبي ان مصطفى ليس من أهل البلد ، لكنه غريب جاء منذ خمسة أعوام ، أشترى مزرعة وبنى بيتا وتزوج بنت محمود .. رجل في حاله ، لا يعلمون عنه الكثير . لا أعلم تماما ماذا أثار فضولي ، لكنني تذكرت أنه يوم وصولي كان صامتاً . كل أحد سألني وسألته . سألوني عـن أوربا . هل الناس مثلنا أم يختلفون عنا؟ هل المعيشة غالة أم رخيصة ؟ ماذا يفعل الناس في الشتاء ؟ يقولون ان النساء سافرات يرقصن علانية مع الرجال . وسألني ود الريس: ⁽⁽هل صحيح انهم لايتزوجون و لكن الرجل منهم يعيش مع المرأة بالحرام ؟⁾⁾ أسئة كثيرة رددت عليا حسب علمي . دهشوا حين قلت لهم ان الاوربيين ، اذا استثنينا فوارق ضئيلة ، مثلنا تماماً ، يتزوجون ويربون اولادهم حسب التقاليـد والاصول ، ولهم أخلاق حسنة ، وهم عموماً قوم طيبون . وسألني محجوب . ⁾⁾ هل بينهم مزارعون ؟ ⁾⁾ وقلت له : «نعم بينهم مزارعون وبينهم كل شي، . منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم مثلنا تماماً . وآثرت ألا أقول بقية ما خطر عل بالي : « مثلنا تماما . يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاماً بعضها يصدق و بعضها يخيب. يخافون من المجهول ، وينشدون الحب ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد . فيهم أقوياء، وبينهم مستضعفون ، بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق ، وبعضهم حرمته الحياة . لكن الفروق تضيق وأغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء » . لم أقل لمحجوب هذا ، وليتني قلت ، فقد كان ذكياً . خفت ، من غروري ، ألا يفهم . وقالت بنت مجذوب ضاحكة : «خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء » . لكن مصطفى لم يقل شيئا. ظل يستمع في صمت ، يبتسم أحياناً ، ابتسامة أذكر الآن أنها كانت غامضة ، مثل شخص يحدث نفسه . نسيت مصطفى بعد ذلك ، فقد بدأت أعيد صلتي بلناس والأشياء في القرية . كنت سعيداً تلك الأيام ، كطفل يرى وجهه في المرآة لأول مرة . وكأنت أمي لي بالمرصاد ، تذكرني ، ًبن مات ، لأذهب وأعزي ، وتذكرني بمن تزوج ، لأذهب و اهنئ . جبت البلد طولاً وعرضا معزياً ومهنئاً . و يوماً ذهبت إلى مكاني الأثير ، عند جذع شجرة طلح عل ضفة النهر . كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولي تحت تلك الشجرة ، أرمي الحجارة في النهر وأحلم ، ويشرد خيالي في الأفق البعيد ؟ أسمع أنين السواقي على النهر، وتصايح الناس في الحقول ، و خوار ثور أو نهيق حمار. كان الحظ يسعدني أحياناً ، فتمر الباخرة أمامي صاعدة أو نازلة . من مكاني تحت الشجرة ، رأيت البلد يتغير في بطء . راحت السواقي . وقامت على ضفة النيل طلمبات لضخ الماء ، كل مكنة تؤدي عمل مائة ساقية . ورأيت الضفة تتقهقر عاماً بمد عام أمام لطمات الماء ، وفي جانب آخر يتقهقر الماء أمامها . وكانت تخطر في ذهني أحياناً أفكار غريبة. كنت أفكر ، وأنا أرى الشاطىء يضيق في مكان ، ويتسع في مكان ، أن ذلك شأن الحياة، تعطي بيد وتاخذ باليد الأخرى . لكن لعلني أدركت ذلك فيا بعد . أنا الآن ، على أي حال ، أدركت هذه الحكمة ، لكن بذهني فقط ، إذ أن عضلاتي تحت جلدي مرنة مطواعة وقلبي متفائل . انني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة ، أريد أن أعطي بسخاء ، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر . ثمة آفاق كثيرة لابد أن تُزار ، ثمة ثمار يجب أن تُقطف ، كتب كثيرة تقرأ ، وصفحات بيضاء في سجل العمر ، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء . وأنظر إلى النهر بدأ ماؤه يربد بالطمي - لا بد أن المطر هطل في هضاب الحبشة - وإلى الرجال قاماتهم متكئة على المحاريث ٠ أو منحنية على المعاول. وتمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء حيث تقوم البيوت. أسمع طائراً يغرد ، أو كلباً ينبح ، أو صوت فأس في الحطب - وأحس بالاستقرار . أحس انني مهم ، وانني مستمر ، ومتكامل . « لا .. لست أنا الحجر يلقى في الماء ، لكنني البذرة تبذر في الحقل » . وأذهب إلى جدي ، فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاماً ، قبل خمسين عاماً ، لا بل ثمانين ، فيقوى إحساسي بالأمن . كنت أحب جدي ، ويبدو أنه كان يؤثرني . ولعل أحد أسباب صداقتي معه ، انني كنت منذ صغري تشحذ خيالي حكايات الماضي ، وكان جدي يحب أن يحكي ، ولما سافرت خفت أن يموت في غيبتي . وكنت حين يلم بي الحنين إلى أهلي ، أراه في منامي . قلت له ذلك فضحك وقال :« حدثي عراف وأنا شاب ، انني إذا جاوزت عمر النبوة - يعني الستين - فانني سأصل الماثة » . وحسبنا عمره ، أنا وهو فوجدنا انه بقي له نحو اثني عشر عاما . كان جدي يحدثني عن حاكم غاشم ، حكم ذلك الاقليم أيام الأتراك . ولست أعلم ما الذي دفع بمصطفى إلى ذهني ، لكني تذكرته بغتة ، فقلت أسال عنه جدي ، فهو عليم بحسب كل أحد ف البلد ونسبه ، بل باحساب وأنساب مبعثرة وبحري ، أعلى النهر وأسفله . لكن جدي هز رأسه وقال انه لا يعلم عنه سوى انه من نواحي الخرطوم ، وانه جاء الى البلد منذ نحو خمسة أعوام ، واشترى أرضاً تفرق وارثوها ، ولم تبق منهم إلا امرأة. فأغراها الرجل بالمال واشتراها منها . ثم قبل أربعة أعوام زوجه محمود إحدى بناته . قلت لجدي : أي بناته ؟ ، فقال : « أظنها حسنه » . وهز جدي رأسه وقال : « تلك القبيلة . لا يبالون لمن يزوجون بتاتهم » . لكنه أردف ، كأنه يعتذر ، ان مصطفى طول إقامته في البلد، لم يبدو منه شيء منفر، وانه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام ، وانه يسارع « بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح » .. هكذا طريقة جدي في الكلام .
الكاتب: الطيب صالح
0المفضلة
341 المشاهدات
0 تعليقات