• كيف نختم القصيدة؟

    إذا كانت القصة القصيرة هي "فن الشعور بالنهاية"، فالشعر هو التجسيد المستمر للحظة النهاية. إن قصيدة محرومة من ختام جيّد هي قصيدة ميتة قبل ولادتها. وتكاد تكافئ مهارة كتابة خاتمة جيّدة للقصيدة مهارة كتابة الشعر نفسه. بل أن الخواتيم تجيء، أحياناً، قبل القصيدة، تماماً كما يشمُ الفلاح شذا محصوله وهو يبذر الأرض أوّل الموسم. أميلُ لاعتقاد أن على الشاعر حسم البداية والنهاية في تحضير بدئي قبل كتابة القصيدة، سواء كان التحضير داخلياً، مخبوءاً، أم خطاطة أوليّة. ولكن أي النهايات؟ وهل يقود الشاعر نهاية نصّه كما القاص أو الروائي أم النهاية تختار نفسها؟ سيعارضُ هذه الفكرة الرأيُ الذاهبُ بأن القصيدة إملاء من قوّة الشعر الداخليّة، وكنتيجة، فالشاعر لا يعرفُ، إذ يكتب سطره الأول في النص، السطر الثاني والثالث وهكذا، فكيف نريده يدرك النهايات؟ هذا الرأي معتبرٌ، لكنه يشتغل في فهم خاصّ للكتابة الشعريّة، ضمن جملة خيارات، وكان الراحل فوزي كريم من متبنيه والمدافعين عنه. لكن قارئ الشعر لن يعجزه إدراك الصنعة البادية في نهايات القصائد، مهما دافعَ الشعراءُ عن لا قصديّتها. هكذا صار للشعراء مذاهب في النهايات. وصفات متداولة وسبل متبّعة، بعضها أضر بالقصيدة حين حوّلها إلى رهان مع المتلقي، رهان يرى أن معيار الختام الناجح هو الانفعال الصوتي أو العضلي، التصفيق أو إطلاق الآهات. سينتقل هذا التصوّر لاحقاً مع الشاعر إلى كل مفصل داخل النص، وليتحول بعض الشعراء إلى خيّاطين، يفصّلون القصيدة ويصممونها لغرض واحد: انتزاع التصفيق والتفاعل، مهما قدموا من "تنازلات فنيّة" لأجل ذلك. ويمكن التماس هذه الظاهرة جلياً حين تحضر أي جلسة في مهرجان شعري. شائعة جعلت الشعر، خاصة المنبريّ منه، وسيلة لا غاية. من أشهر تلك الشائعات أن الختام المفارق، غير المتوقع، الضربة، سمها ما شئت هو الخيار الأسلم لختام مثالي. وقد أرهق حبر كثير في نهايات تُجهد اللغة والشاعر بمفارقات يكبلها التصنع ويشوّش عليها التكلف والابتذال. نعم، من المهم أن يحتفظ الكاتب بزمام بناء قصيدته وأسرارها تصاعداً وخفوتاً حتى المشهد الأخير، لكن إقصار النهاية على مشهد مفارق يتحفّز إليه القارئ ضرب من عقد صفقة يكسب فيها القاري وتخسر فيها القصيدة والشاعر معاً. ذلك لأن الشعر عليه دائماً أن يأتي من جهة أخرى خارج الحسابات وفوق سماء المألوف. ليس الختام الجيّد لأي نص هو الختام السعيد أو الحزين، المؤثر أو الصادم، بل الختام الصادق الذي تشعر معه –وهو شعور باطني غامض- أن اللوحة اكتملت وأن أي ضربة فرشاة أخرى على القماشة نقصان في بهاء المشهد. يقول فاليري "القصيدة لا تنتهي، القصيدة تترك!" ولعله يشير إلى تلك اللحظة الخاصة حين تطالبُ القصيدة بختامها منتظرةً استجابة الصانع.

    الكاتب: علي محمود خضير

    0المفضلة

    513 المشاهدات

    0 تعليقات

    المفضلة إبلاغ
التعليقات معطلة من قبل المؤلف أو الإدارة

التعليقات (0)

المزيد من علي محمود خضير

عرض جميع الأعمال

مواضيع ذات صلة

  • كيف نختم القصيدة؟