الفرادة والقصيدة الجماعيّة
Apr 8, 2022 09:52 AM Apr 8, 2022 09:52 AM
كم قصيدة تكتبُ حول العالم في اليوم الواحد؟ خطر لي هذا السؤال قبل سنوات. وأظن الاستفهام على بساطته الظاهرية جوهري وأساسي في فهم الشاعر لعلاقته مع الكتابة. أيّ قصيدة ستَكتبُ وسط مئات بل ألوف النصوص التي يدوّنها الشعراء كل ثانية في مكان ما؟ طبيعة الجواب ستحدد طبيعة النتاج، صلاحيته أمام الزمن، وقدرته على تحقيق فرادة خاصّة تسمح له بالنجاة من طوفان الركام المتداول، هذا مع اشتراط مسبق بوجود الموهبة والمثابرة. الفرادة صفة الجودة، وندرتها مفهومةٌ ومسلَّمٌ بها، لكن تقفيها بحاجة إلى وعي الكاتب في أن يعرف أمرين رئيسين: موقعه ووجهته. قلة من كتّاب الشعر مثقلون بالفرادة. الأغلب يكتبُ القصيدة على رسل ما تُمليه موهبته وما ألفه من أدوات تعبير وتأثير. وإن اقتربت قصيدته من مجرات كبرى فستبتلعه أو أجرام متناثرة فستضيّعه. إن معضلة الشعر كتابته على المألوف، والسير به على المعبّد من الطريق. كان هايدغر قد نادى مرّة بتخليص الشعر من "عبودية الأدب". نحتاج كتابة تعود بالشعر إلى ما كانه قبل أن يكون. إلى الرحم، النبع الأوّل، قبل الدرس والأدوات والتكريس، إلى الخروج الكلي من المفهوم والانفتاح على لا نهائية المفهوم. هكذا يُصبح لكل قصيدة قانونها ولكل شاعر صوته، كما لكل ورقة في الغابة حفيفها الخاصّ. في جلسة شعريّة لمهرجان محليّ على "يوتيوب" يتكرر على المنصة، من المشاركين، وخلال ساعة واحدة، ذكر مفردة الشهيد (4 مرات)، الأمّ (5 مرات)، تشرين (7 مرات)، المرايا (4 مرات)، إن تأمّل هذا المثال فقط، كعينة، يمكن أن يعطينا تصوراً عن معضلة التشابه التي تحكم النصوص الراهنة، ليس على صعيد الموضوعة فحسب، بل الأسلوب واستعمال اللغة. كأن الجميع قال، بالمحصلة، قصيدة واحدة، هي قصيدة جماعية. قد يكون شاعر المهرجان ملزماً –شعورياً- بقراءة نصٍ (مضمون التفاعل) يجعله يطرق باب الجمعيّ من المواضيع لكسب الحماس والعاطفة، لكن، ما بال القصائد الغافية في الدواوين؟ كل كلمة في المعجم تطالب الشاعر بقصيدتها. وكل قصيدة تسأله فرادتها، الآتية، بالضرورة، من فرادة الشاعر. * وللشعراء طقوس في تقفي الخصوصية أو الوقوع في التشابه. كان جرير مرّة يتلقى عتباً من ولده عن قلة شعره في تلك الأيام، وراح الإبن، محفزاً الأب، يستعرضُ شيئاً مما سمعَ مؤخراً، فلمّا أتمّ. قال جرير: "يا ولدي، إن مثل هذا (الشعر) ليُعرض عليّ كل ليلة فلا ألتفت إليه". هل يعني ذلك قطيعة تامّة مع مجرات الشعر، قديمِها وحاضرها، شرقيها وغربيها؟ بالعكس. بل يعني أخذ موروث الشعر وحاضره سبيلاً لانتخاب طريقة تجعل القارئ يكتشفك لا أن يجدك. في سوق الطيور، وسط البصرة، تصدحُ مئات البلابل بتغريدات متقاربة، لكن أذن المربيّ الحاذق تأخذه إلى النغمة الفريدة التي تشع، ساطعةً، بين غابة الأصوات المتداخلة (الواحدة).
الكاتب: علي محمود خضير
0المفضلة
60 المشاهدات
0 تعليقات