ما لا يسعُ المحقِّق جهله من تداخل بحور الشعر
Feb 5, 2023 09:28 AM Feb 5, 2023 09:28 AM
تكلمتُ في أحد دروس سلسلتي «المِنَح الوافية» عن التغييرات العروضيّة، وكيف أنّ تفعيلات الشعر ليس ضرورياً أن تؤدّى بصورتها المعروفة؛ فقد يدخلُها تغيير في هيأتها أو حروفها كتسكين متحرك أو حذفه، أو حذف ساكن أو زيادته، أو حذف أكثر من حرف أو زيادته. بل قد يُحذف بعضُ تفاعيلها، فيأتي البحر مجزوءاً أو مشطوراً أو منهوكاً، فإن بقيت تفعيلاته على الأصل؛ فهو التامّ. «وهذه التغييرات هي السبب الرئيس في التعدُّد الفنِّي في أعاريض البحور وأضربها في الشعر العربي، حتى بلغت ثلاثةً وستين نوعاً أو تزيد. ولا شكَّ أنّ -في ذلك- فُسْحَةً للشعراء، وتمكيناً لهم من صَوْغ تجاربهم بالشكل النغمي المؤثر». إلا أنّ هذه التغييرات قد تُسَبِّبُ تداخلاً -أو تشابهاً- بين البحور، يَعسُر معه على الدّارس للشِّعر عروضيّاً تمييز بعضها عن بعض، ما لم يكن متمكّناً من علم العروض ودقائقه، وهذا الباب من دقائقه التي لا يَسَعُ مُحقّق النصوص التراثيّة وناقد الشِّعر جهلها! إنّ معرفةَ بحر الأبيات التي تَرِدُ في النصّ المُحقَّق مِن مَهامّ المُحقِّق المُتعارف عليها بين أهل الفنّ، وعليه تثبيت ذلك بين قوسين مربّعين -أو ما يصطلح عليه- هكذا: [مجزوء الكامل] مثلاً، إن لم ينصّ المؤلّف على ذلك. وتتعقّد المسألة، وتزداد مهمّةُ المحقّق صعوبةً عندما يكون البيت وتراً لا شافع له.. ومِن مَهامّ الناقد الأدبيّ إذا ما تناول نصّاً شعرياً، أن يتعرّف على بحر القصيدة أو المقطوعة ابتداءً، لِيَلِج إلى الجانب الإيقاعي من نَقْده للنصّ الذي يتدرَّج -عادةً- مِن التَّحَقُّق من سلامة النصّ الشعريّ عروضيّاً، إلى استجلاء مَواطن الحُسن والقُبح الإيقاعيَّين فيه.. فما هي أهمّ الصور التي تتداخل فيها البحور الشعريّة؟ وكيف نُفَرِّق بينها؟ وما هي أوجه الترجيح عند التداخل؟ وأقول.. الصور التي يتداخل فيها بحران من بحور الشعر بعد دخول التغييرات العروضيّة على أحدهما أو كليهما كثيرة جدّاً، أورد منها الأستاذ عبد الله واصل في موسوعته في العروض والقافية سبعَ صور من التداخل، وسأكتفي بمثالين اثنين هنا من صُنْعي طلباً للاختصار، والمثال كفيلٌ بتقريب فهم القاعدة.. المثال الأوّل: تداخل الوافر المجزوء المعصوب مع الهزج ومنه قول الشاعر زيد الجواديّ (مُعاصر) في مِدْحَةٍ نبويّة له، مِن الوافر: فَنَفْسُ الحُرِّ لا تَرْضَى بِغَيضٍ مِنْ مَعَانِيْهِ وتقطيعه هكذا: //ه/ه/ه - //ه/ه/ه --- //ه/ه/ه - //ه/ه/ه والوافر يشتبه بالهزج إذا جاءت تفعيلاتُ مجزوئِهِ معصوبةً جميعاً، وفيه تُصبح (مُفَاعَلَتُنْ): (مُفَاعَلْتُنْ) أو (مَفَاعِيْلُنْ)، وكلاهما بوزن: (//ه/ه/ه)، والعصبُ هو تسكين الخامس المُتحرك. والفيصلُ في ترجيح نسبة البيت إلى بحره هو النظر في بقيّة القصيدة، فإن كانت تفعيلاتها جميعاً موافقة لتفعيلة الهزج (مَفَاعِيْلُنْ) بصورها المقبولة فيه، كالمقبوضة (مَفَاْعِلُنْ) أو المكفوفة (مَفَاْعِيْلُ)؛ فهو من الهزج. فإن ظهرت في القصيدة تفعيلة الوافر (مُفَاعَلَتُنْ) بصورها المقبولة فيه، وهي كثيرة؛ فهي منه. فإن لم يوجد ما يُعين حَمْلَه على أحدهما؛ حُمِلَ على الهزج، لأنّ (//ه/ه/ه) أصل في الهزج، عارضة في الوافر بسبب الْعَصْب، والحمل على الأصل أولى! المثال الثاني: تداخل الكامل التام المضمر مع الرجز التام ومنه قول فارس بني عَبْس، من الكامل: إنِّي امْرُؤٌ مِنْ خَيْرِ عَبْسٍ مَنْصِبًا شَطْرِي، وَأَحْمِي سَائِرِي بِالْمِنْصَلِ وتقطيعه هكذا: /ه/ه//ه - /ه/ه//ه - /ه/ه//ه --- /ه/ه//ه - /ه/ه//ه - /ه/ه//ه والناظر إلى هذا البيت لأوّل وهلة يظنّه من الرَّجز، لكنّه في الحقيقة من قصيدةٍ على بحر الكامل. وقد رُفع البَرزخ بين البحرين هنا بسبب دخول الإضمار على تفعيلات الكامل جميعاً، فحوّلها من (مُتَفَاْعِلُنْ) إلى (مُتْفَاْعِلُنْ) أو (مُسْتَفْعِلُنْ)، وكلاهما بوزن: (/ه/ه//ه)، والإضمار هو تسكين الثاني المتحرّك. فإذا لم يوجد ما يعين حَمْلَه على أحدهما؛ حُمِلَ على الرجز، لأنّ (/ه/ه//ه) أصلٌ في الرجز، فرعٌ في الكامل، بسبب الإِضْمار، والحمل على الأصل أولى كما تقدّم! بقي أن أشير هنا إلى أهم أوجه الترجيح التي يتَّبعونها عند التداخل، تاركاً التفصيل فيها إلى منشور قابل -إن يسّر الله ذلك!-، وهي: الترجيح بالحَمْل على الأصل، وعليه المثالان المتقدّمان. الترجيح بالحمل على الأخفّ، فحذف الساكن -عندهم- أخفّ من حذف المتحرّك. الترجيح بالحمل على الأقل عملاً، فما دخله تغيير واحد راجح على ما فيه تغيران، وهكذا. الترجيح بالحمل على التغيير الحسن أولى من الحمل على القبيح. والموضوع طويل الذيل، بالغ الأثر في الدراسات العروضيّة للمختصّين، وربما تعرضنا له بتفصيل أكثر في مقال آخر، والحمد لله ربّ العالمين!
الكاتب: فراس السوداني
0المفضلة
326 المشاهدات
0 تعليقات