بر وبحر
May 26, 2023 07:53 AM May 26, 2023 07:53 AM
منذ الأزل وتلك التناقضات تملأ الكون. هو وهي ليسا أكثر من أحد الوجوه التي طافت الأزمنة الغابرة لتستقر في زمن الثورة زمن لا يعرف الرحمة ولا يدرك ماهية الشفقة زمن المشاهير زمن الشخوص لا المبادئ حيث للأخلاق طقوس. هو سلسلة من الدوامات الا متناهية، لا يكل ولا يمل فلا يكف عن الدوران أخذاً ما حوله جاذباً إياه نحوه رغماً عنه بينما يستمر هو في الدوران. هي إعصار يضرب في كل مكان لا يعترف بحدود المكان أو الزمان. تضرب بقوه تعصف بما حولها فلا تثق بالثوابت فتكرر هجماتها بشراسة فليس لليأس معنى في قاموسها فلن تهدأ حتى تغير معالم تلك الثوابت وتهدم ما لا يعجبها وتشكل حيث تشاء ملامح للمجهول. هو بحري بطبعه وهي تتمتع بشخصية برية نارية، هو وهي كالبر والبحر لا يلتقيان إلا في مساحة ضيقة فيها المياه ضحلة وحيث البر رطب وطري تلك كانت لحظات الحزن، الفرح، الضعف، والحب التي جمعتهما. حبهما كتيار ماء بارد وأخر دفيء لا يجريان متجانبان إنما متعاكسان، في حركتهما الديناميكية يشكلان مجالاً مغناطسياً يخرج عن قوانين الفيزياء فمجالهما لا يتمايز فيه الوسط من الأقطاب ولا تفسير منطقي لكيف ومتى يجذب الأشياء. هو مل منذ زمن جمود وانجذاب العوالق والسفهاء مل وحدته الفكرية من تخلف تلك البشرية التي يخالطها منذ امد طويل ثار ملله وازداد صخبه حتى مل من بحاره ومحيطاته، هجرها بلا تردد وألقى بنفسه للمجهول، راح يبحث عن تجربة جديدة عن رفقاء جدد ونماذج علها تختلف. ضاقت عليه الأرض ببرها وبحرها فتجربته أكبر وأخطر وأعمق. رحل للفضاء الفسيح ليكون شهاباً لامعاً يستدل به من أضاع الطريق. أعجبه الفضاء بقوانينه وانفجاراته وتقلباته، راح يتنقل من نجمة لنجمة لكن قلبه مازال ينزف هناك عميقاً وفي رأسه سؤال يكاد يفجر شرايينه الدقيقة: هل ستسأل عنه؟ هي ضاقت ذرعاً بكل ما حولها فمنذ رحيله ضعفها بات يزداد يوماً تلو الأخر حتى فقدت قدرتها وحيويتها وفقدت سطوتها، لم تعد البراري كسابق عهدها، ذوي جمالها وفارقتها بهجتها، غادرت براريها حيث تربعت على عرشها لسنوات، ودعت شطآنها وأمانها وارتحلت هي الأخرى بحثاً عنه علها تعود ملكة كما اعتادت. جابت البحار والمحيطات وخلال ترحالها كانت تشتم عبقه الفواح في كل ما كان يلامسه، عشقت كل ما ضمه ذات يوم، ألفت كل ما تعلق به، غارت عميقاً في بحثها لتضيع ملامح موطنها شيئاً فشيء لتستكين كأعماق لمحيط بلا قرار. بسكونها للأعماق جذبت بغموضها وعتمتها وتقلباتها الخفية الغواصين من كل الأقطار. فدفعوا حياتهم حيناً وحيناً عادوا يجرون أذيال الخيبة فلا هم أهل ليكونوا بديلاً عنه ولا هي كانت ما يبحثون ويتخيلونه. إلا أن أحد البحارين كان يخبرها بمغامراته وفي إحداها ذكر ذلك الشهاب الذي أنقذ حياته من موت محتم، أدركت كينونته في ذلك الشهاب فكيف تجهل حضوره حتى وإن غاب. تعلق نظرها عالياً كامتداد لبحثها عنه. ذات يوم صاف، رأته ورأها تعانقت الأنظار بينما تعاتب العيون بعضها البعض، فلا كلام يفي مرارة المعاناة منذ الفراق وحتى اللقاء. بعد العتاب والتأنيب والنقد وبرودة الاشتياق نظر لها متعالياً: - لما انت هناك؟! لما تغوصين في الأعماق كيف ترتضين النزول عن عرشك لتستقرين في القاع؟! لوى شفتيه مرارة وأسفاً لحالها ونظرة تجوب عينيه، فيها من النزق الكثير. جرحتها وطعنتها نظرته ألاف الطعنات، والألم يذكي نار كرامتها الثائرة. وكبرياؤها الجريح يخرس صوت إنسانيتها ألقتيلة، ألا يعرف حقاً لما هي هناك!!! لن تخبره إذاً فالحب لا يستجدي العطف والشفقة. لن تعبأ بنظراته لها، لن ترى شفتيه المزمومين ازدراء لحالها. ردت بحب بعد أن ابتلعت علقم عباراته المسمومة: - ولما أنت هناك؟! أتراك تظن المكان والزمان يغير معدن الذهب؟ ألا تعلم أن الذهب رغم عن كل الظروف يبقى أصيلاً وإن خبى بريقه؟! أتعرف حتى وإن تقادم الزمن عليه يكسبه معنى تاريخياً، يزيد من قيمته، يغير من مظهره فلا يبقى مجرد معدن ثمين! ويظل الكثير يفنون أعمارهم بحثاً عنه!!! - سيدي يا حبيب الأمس ويا عابر السبيل اليوم، أيغرك ارتفاعك عالياً؟! فعلم إذاً أن كل نجم مساره للأفول وما من كوكب مضيءً ذات يوم إلا ومصيره الذبول وما أنت إلا شهاب ينتظر وقته للسقوط أما أنا فسأبقى هناك في الأسفل أنتظرك، عند إذ تتساوى الرؤوس. فهل ستبقي على وجهك ما أراه الآن من ملامح البؤس. تململ بين نجماته والضيق يطبق على أنفاسه يبدو واضحا في نظراته، لفتاته، حركاته وسكناته. - تباً أنت من دفعني للرحيل! لم ينطقها لكنه رددها مراراً في كل نبض يسري بوريده. يلومها سراً كيف تسببين الالم للجميع كل من أقترب منك يسحق بعد أن يرتطم بالصخر. تردد مكابرةً واقعها: - لم أرغب يوماً بإيذاء أحد، لست أفضل حالاً فانسحابك، بعدك، سلبيتك وغيابك أضر بالعديد وأضرني. اما بداخلها فقد غبطته على منبره العالي فهو يرى بوضوح ويدرك الحقيقة حين تلوح هو ينظر من الأعلى ليعلم لكن ليبقى بعيداً هي تنظر من الأسفل لتكون قريبةً قربٌ يغلفه الجليد هو أيضاً يحسدها على اليابسة التي تمد جذورها فيها لتعطي المزيد عادا للصمت من جديد أدركا أن لا مجال ليجتمع كوكبين في مدار واحد.
الكاتب: محمد الطحيني
2المفضلة
199 المشاهدات
0 تعليقات