قراءةٌ في رواية (آخر أمراض الكوكب) - د. حميد يونس.
May 10, 2024 04:51 AM May 10, 2024 04:51 AM
ليس أبلغ من قدرة الأدب على سبر أغوار النفس البشريّة، فالأدبُ كما يرى جان نويل "يُقدّم وجهة نظرٍ حول واقع الإنسان ووسطه، وحول الكيفيّة التي يُدركُ بها الإنسان هذا الوسط، والروابط التي يُقيمها معه". هكذا يُصبحُ الأدبُ سبيلًا لتحقيق التوازن الذي تُهدّده قسوة الواقع وتُصبحُ العمليّة الإبداعيّة قفزةً إيجابيّةً يتجاوزُ بفضلها الكاتب كلَّ أشكال الخوف المُتأصّل في الذات البشريّة. يُمكنُ اعتبار رواية (آخر أمراض الكوكب) للكاتب العراقي الدكتور حميد يونس، الصادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع روايةً بمفاهيمَ جديدةٍ تنفتحُ على آفاقٍ واسعةٍ، فتُغادرُ أحداثها وشخصياتها الدائرة التي اعتدنا معايشتها في الأعمال الروائيّة إلى عوالمَ خارجيّةٍ تتجسّدُ في اتخاذِها موضوع انتقال الأرواح من أجسادٍ إلى أخرى موضوعًا جريئًا يُحدّد خصوصية الرواية من دون أن يطغى على غيره من حقول المشروع الكُلّي للكاتب، فظاهرة الإنتقال التي تناولها د. حميد قد تكونُ "علاجًا للكوكب، وليست، كما يُشاع عنها بآخر أمراضه" وإنطلاقًا من هذه الفكرة المحوريّة، تتخطّى الأحداث حدود الفرد وتخلقُ عوالمَ شتّى، تسكنها عناصر لا تُدركُ ماهيتها بالوعي الفرديّ بل تُحالُ على الوعي الجمعيّ إذ أنَّ التحوّلات التي تطرأُ على شخصيات الرواية إثر انتقال أرواحها إلى أجسادٍ أخرى هي تحوّلات تتحكّمُ في مُختلف سلوكيات هذه الشخصيات وممارساتها وما تحمله من مشاعر وتناقضاتٍ وصراعاتٍ خفيّةٍ وهذه التحوّلات التي أرادها الكاتبُ جليّةً هي منهجٌ يهدفُ بالدرجة الأولى إلى إزالة الأقنعة التي استكانَت لها الشخصياتٍ لوقتٍ طويلٍ لعلّ هذا الإنتقال يُقصي ما تُخفيه هذه الأقنعة وراءها فيغدو "الإنسان الجديد" كما يحلمُ الكاتبُ إنسانًا "يحملُ الهويّة الكونية في كنفه، لأنّه قد تجاوز بشكلٍ أو بآخر ارتباطات الوطن والقوميّة والمجتمع والثقافة، وتحتم عليه أن يتوحّد ويتصالح مع ذاته ليتحوّل إلى أنموذجٍ رساليّ أسمى" لعلّنا ب"توحّد اللغات والمصائر" نجعلُ "عالمنا مُوحّدًا ومتكاملًا من حيث التعدّدية والتنوّع" ولعلّنا نُنقذ أرواحنا قبل عيوننا التي "تطبّعت وتعوّدت المآسي والدماء والدمار حتّى أصبحت مشهدًا اعتياديًا ومألوفًا ومُفرّغًا من محتواه". من الجدير بالذكر أن الرواية انطلَقت من العراق وانتهت بالعراق، وتحديدًا بحدثٍ دامٍ وأليمٍ وهو انفجار الكرّادة وتبدو جليّةً حالة المُعاناة التي أغرقَت بها هذه الفاجعة الأهالي وصورة الموت التي قد تغلغلت في أعماقه وتأثير هذه الصورة في النفس المفجوعة من خلال لغةٍ مفعمةٍ بالألم مقرونةً بمشاهد الدمار والسلوك السادي للمعتدي الذي ينقضُّ على الحياة ويُزهقُ أرواح الأبرياء. ولعلَّ لجوء الكاتب لإدخال هذا الحدث الأليم ضمن أحداث الرواية هو لتذكيرنا بالشخصية المُعادية للإنسانية التي يتحوّل عندها سفك الدماء إلى هوايةٍ، وليُؤكّد الكاتبُ أنّ آخر أمراض الكوكب هو في الحقيقة العنف الناجم بلا أدنى شك من سلوكيّاتٍ مُضطربةٍ ومسالك داميةٍ إلى حدّ التدمير وأنَّ لا خلاص للإنسانية إلّا بإشاعة قيم التسامح وتأصيلها من منظورٍ سياسيّ وإنسانيّ وأخلاقيّ وثقافيّ، ومن خلال تعزيز المعرفة بالآخر، واحترامه إذ لا يُمكن الخروج من دائرة العنف والكراهية إلا بتعميم مفهوم التسامح، على أرضية أنّ الناس في الأصل مختلفون في قيمهم وقومياتهم ومذاهبهم ولغاتهم وأعراقهم وأوطانهم.
الكاتب: ميساء هاشم
0المفضلة
28 المشاهدات
0 تعليقات