قراءة في الديوان الأخير للشاعر عبدالله بيلا.
Jun 15, 2024 03:56 AM Jun 15, 2024 03:56 AM
قراءة في ديوان الشاعر عبدالله بيلا "أربع وعشرون ذاكرة لقصيدةٍ واحدةٍ". (الأنا المتشظّية بين الشاعرية والواقعية). صدرَ للشاعر عبدالله بيلا أربع مجموعاتٍ شعريةٍ: "تآويل ترابية" عام 2012، "صباح مُرمّمٌ بالنجوم" عام 2015، "سفرٌ إلى الجسد الآخر" عام 2019 والأخيرة بعنوان "أربع وعشرون ذاكرة لقصيدةٍ واحدةٍ" عام 2022. في ديوانه الأخير "أربع وعشرون ذاكرة لقصيدةٍ واحدةٍ"، نجدُ في قصائد الشاعر "عبدالله بيلا" ارتباطًا وثيقًا بالزمن، وهذا الارتباط يُذكّرنا بأنّ الإنسان في حقيقته كائنٌ زمانيٌّ، وبأنّ الزمنَ جزءٌ من وجوده. كان الزمنُ ولا يزالُ نقطةً تُثار حولها قضايا واهتمامات كثيرة في مختلف المجالات المعرفية والأدبية والإبداعية. يُفصحُ ديوان "أربع وعشرون ذاكرة لقصيدةٍ واحدةٍ" عن اقتسامٍ دلاليّ ناتجٍ من اقتسامٍ في المفردة الشعرية؛ فالشاعر "عبدالله بيلا" لا يدع لمفردات الزمن مجالًا أن تنموَ حتى يأتي بمفرداتٍ تُخفّف من ثقله. وهكذا تتحرّكُ مفردات الشاعر ضمن هذا الجو، فهو يذكر الوقت، ولكنّه لا ينسى رقّة الحياة وجمالها خارج أسوار المدرسة ويكون مُتأرجحًا بين ساعات اليوم داخلها وساعات الراحة خارجها. وهكذا يأخذُ الوقتُ في قصائد "بيلا" أهميةً كبيرةً إذ يبدو الشاعر مُتشظّيًا بين زمانين. إنّه يتناول رماد الزمن اليومي كهامشٍ ليخلقَ منه حالةً جوهريةً داخل إطار المدرسة ليُصبحَ هذا الهامش هو المتن الحقيقي الذي يدور حول موضوع الزمن في قصائد هذا الديوان. لقد أبدعَ الشاعر "عبدالله بيلا" في اختيار عنوان ديوانه حيث اختزلَ ما يحمله من دلالاتٍ عميقةٍ على مضمون القصائد ولا نُبالغ في القول إنّ عنوان "أربع وعشرون ذاكرة لقصيدةٍ واحدةٍ" هو نصٌ موازٍ للقصائد، كونه أوّل لقاءٍ محسوسٍ بين القارئ والشاعر؛ إذ من خلال العنوان استطاع "بيلا" أن يُفجّرَ ما كان ساكنًا في وعي القارئ ويُثير تساؤلاته و تأويلاته. كما يُظهر العنوان، فإنّ أمد الديوان يمتدُّ ضمن مدّةٍ زمنيةٍ تتحدّدُ بأربع وعشرين ساعةٍ، تقلّصت في طياتها سيولةُ يومٍ كاملٍ حيث كان خط الزمن ينتقلُ من ساعةٍ إلى أخرى ببراعةٍ وانسيابيةٍ تُنسي القارئ ثقل الوقت الذي يُنهك روح الشاعر. يُذكرنا ديوان الشاعر "عبدالله بيلا" بما ينطوي عليه الزمن من تناقضٍ، فلا وجود لحياة الإنسان من دون زمنٍ. والزمن هو الذي يُنقصُ هذه الحياة ويُقربها من الفناء وهذا التناقض يُلقي الإنسان في حالة تشظّي وتساؤل: " أيكون الإنسان صديق الزمن أم يكون عدّوه؟" ولقد عبّرت قصائد "بيلا" عن هذين الموقفين؛ فما بين ذاته الكارهة للزمن وصباحٍ "تفلّت من طوق روحه" و"الصور المُكرّرة البطيئة". ثمة ذاتٍ أخرى للشاعر مُحبّة للزمن؛ ذات يُدهشها "انبعاث رماده المسفوح" كلّ صباحٍ ليصنعَ "جناحين من أغنيات" وليعبرَ إلى خياله "صاعدًا من بئر روحه نحو عتمتها المُضيئة" وما بين ما يُسميه الشاعرُ "سجنًا/ قفصًا للعقول/ ثلاجةً للجثث" و"مقبضٌ يخنقُ الباب" و"خريفٌ تمدّد في شجر الذاكرة" يفتحُ الشاعر "عبدالله" عينيه حتى يُرتّب "فوضى العوالم" ويُشكّل زمنًا آخر يحتضنُ روحه وذاكرته، يحتضنُ "أجنحة الحلم" و"قلبه الطفل" فتُشرق في روحه "التعبى" "شمسُ سكينةٍ" كلّما تجلّت أمه من "فردوس الله عليه"، "باسمةً" وهي "تُتمتمُ بالدعوات العذبة" من "شفتيها الصادقتين"، وكلّما تذكّر "دعاء أبيه النقيّ النبيل/ الذي اختلس الموتُ وقفته الباسلة"، "يدٌ حانيةٌ تطفو على روحه". يقولُ الفيلسوف برغسون: "ما من أحدٍ كالشاعر يُحسُّ بالزمن"، ذلك إنّ الشعراء هم الأكثر إحساسًا، فيكون الإنسان هو ضحية الزمن الذي يخترقُ حياته ويحمله بتدفّقه المُستمر حتى الفناء. في فضاءٍ من القلق والإحساس بعبثية الحياة المُهدرة والزمن السائل يشمخُ السؤال عند "بيلا" والسؤال عند الشاعر ليس سؤالًا شكليًا بل هو سؤال يدخلُ في تكوين الإنسان ودواخله ورؤاه التي تعملُ على تعرية الإنسان وإشكالاته مع العالم من حوله ولذلك يُمكن القول إنّ الشاعر "عبدالله بيلا" لا يبحثُ عن زمنٍ ضائعٍ وإنما يُلاحق زمنًا لم يولدْ بعد: زمن القصيدة، وحالة التشظي بين عالمين كما تُظهرها القصائد ليست إلّا محاولة اندماجٍ كلّي بالعالم، لا تجربة وصفٍ للعالم إذ يُفهم الزمن الأول وثقله الذي بدأ به الديوان من خلال ساعات العمل اليومية، أما الزمن الثاني الذي شهد فيه روح الخفّة فكان المنزل الذي صوّره لنا الشاعر دافئًا "يدسُّ به كلّ هذا التعب" حيث "يتضاءلُ شيئًا فشيئًا بحضن الأريكة/ حتى يشفّ/ يخفّ/ يطير/ وينسى هزائم هذا الجسد". هذه الحالة تُذكّرنا بما رآه الدكتور والباحث الجزائري صالح ولعة أن المكان الذي "ينجذبُ نحو الخيال لا يُمكن أن يبقى مكانًا مبُاليًا، ذا أبعاد هندسيةٍ وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشرٌ ليس بشكلٍ موضوعيّ فقط، بل بكل ما في الخيال من تخيّر". فالمنزل إذًا هو عبارة عن مكانٍ عاش فيه بشر يُخبئون في أحضانه ذكرياتهم وحركاتهم وأحزانهم وأفراحهم. يُعدّ البيت من الأماكن المُغلقة التي ذُكرت في ديوان الشاعر، فقد كان له حضورٌ قويٌّ من بداية الديوان إلى نهايته. فالبيت كيانٌ مميّزٌ لدراسة ألفة المكان من الداخل، فهو يمدّنا بصورٍ مُتفرّقةٍ وفي الوقت نفسه يمنحنا مجموعةً مُتكاملةً من الصور. ومن هنا، فالخيالُ يمنحُ إضافاتٍ لقيم الواقع، فلو لجأنا إلى البيوت لوجدناها تحملُ كمًّا هائلًا من الذكريات والأحداث وتمنحُ الراحة والطمأنينة. ويُذكّرنا ديوان الشاعر "عبدالله بيلا" أنّ للبيت مزايا أخرى، فالإنسان تواجهه عواصف الحياة كما أحزان اليوم، وتعب النهارات فيتحوّل معها البيت إلى فضاءٍ للحماية والطمأنينة التي تجعله يمتلكُ فضائلَ إنسانيةً، ويكتسبُ القوتين الجسدية والأخلاقية للجسد الإنساني، لكنّ إضفاء صفات إنسانيةٍ على البيت يحدثُ حين يكون مكانًا للفرح والألفة. وقد بدت لنا بعض المظاهر الإنسانية المُتجلية في منزل الشاعر، في حديثه عن "بهجة البيت"، وعن "اللحظات الوديعة" داخله والغفوة "في جفون المساء الطويلة" التي كلّما صحا منها التقط "بقايا يديها" وتنشّقَ "عرف الوداعة" و"بلّلت قلب الزمان اليباس". هكذا تبدو اللحظات داخل البيت: "ريّانةً بمباهج الصحو الكثيرة" فيغدو البيت الملجأ والمفر من جميع صعوبات الحياة، وعبثيتها وركن الشاعر في العالم وذكرياته التي يعيشها مرةً أخرى كحلم اليقظة. وهكذا يتّضح أنّ الشاعر "بيلا" زاوجَ في قصائده بين الفضاء الجغرافي المفتوح ونظيره المُغلق ووظّف المكان المفتوح توظيفًا رائعًا بارعًا في تصويره، كما أجاد صبغ عمله بفضاءٍ مُغلقٍ، ساهم بالسموّ في قصائده. وبهذا تلاحمَ كلّ من المكانين مُشكّليْن فضاءً مُتكاملًا منح الديوان رونقًا جماليًا أضفى عليه طابع الإنسجام والكمال ويقول الكاتب الجزائري حبيب مونسي في كتابه (فلسفة المكان في الشعر العربي المعاصر) أنّ "الشاعر عندما ينغمسُ في هدأة المكان، يرهفُ السمع ويُطبق الجفن، فتنسلُّ إلى أعماقه أصداء الماضي حتى تصير الذات عنصرًا من عناصره وزمنًا من أزمنتنا المتعددة والمتعاقبة، وعملية الاشتمال تبعث في النفس الرهبة والخشية وهي التي تملي على النفس أسئلتها". وقد ظهر تأثير هدأة المكان/ البيت على روح الشاعر، فهو يأمل بأن تدنو "سماء القصيدة" و"تحنو" إليه ل"يقبضها بالخيال المروّض"، "يكملها/ كيفما اتفق اللحنُ مُرتجلًا/ صارخًا في الفيافي البعيدة/ قد وجدتُ القصيدة". مثّلت استمرارية الزمن وديمومته تقاطعًا مع أهم عناصر الإبداع: القصيدة/ الشعر لما لها من خصائص السيولة والانسياب فالروح الهاربة "من ضيق الجسد/ الأرض" إلى "فسحتها الكبرى" (القصيدة)، "تنهمر/ تغتسل/ تنسى آخر ما قرأتْ/ في سِفرِ الجسد الغارق في ميتته/ وتُضيء "بفيوض الكتابة" بعيدًا عن "خبرٍ عاجلٍ يتلطّخ بالدم والنار والحمرة القانية". إنّ شعر "عبدالله بيلا" ثريٌّ، بصوره ورؤاه. هو مساحاتٌ كونيّةٌ شاسعةٌ يُحاول في كلّ لفظةٍ من الألفاظ أن يُعبّر عن مكنونات قلبه وأحاسيسها والتعبير عن الأحداث التي عاشت معه، وما زالت. وقد صوّر لنا في قصائده عبثية الحياة مُقترنةً بالوقت لما فيه من غموضٍ وخوفٍ من المجهول، وحمّل قصائده سرّ الحياة وكينونتها وجعلها الحقيقة الكبرى رغم "جرأتها"، "ناصعةً" يراها/ مثل موتٍ لا يُصيب ولا يخيب/ ومثل ذاكرةٍ مؤطرةٍ بموسيقى/ تحنُّ إلى منابعها البعيدة". هذه الحقيقة هي "فطرة الأشياء" في الإنسان؛ هذه الفطرة التي نأى عنها لأنّه كائنٌ "مجبولٌ من الأخطاء" ولأنّ هذا الزمن هو برأي الشاعر "زمن العري والعار والأقنعة" ولذلك فهو "خجلٌ من وجوده" ولا شيء يُدنيه من فطرته الأولى سوى الشعر. بالشعر "ربما يومًا ملائكةً نصيرُ/ وقد نطيرُ/ حمائمًا بيضاء/ تصبغ عتمة الأفق المُبدّد/ بالأناشيد المقدسة البريئة". إنّ الأبدية التي أضفاها الشاعر على ماهية الشعر/ القصيدة هي رغبة منه في الخلود من خلال الأدب رغم مرور الوقت وثقل الزمن. وقد استطاع الشاعر من خلال قصائده أن يوحي بتلك الاستمرارية فكم قصدَ ضفاف القصيدة مُستجليًا سرّ الحياة، إلّا أنه أحيانًا تبدو له صورًا غير واضحة تتراوح بين السطح (الحياة اليومية) والعمق (الذات الشاعرة) وكأنّ القصيدة تُريد البوح ثم تمتنع. وفي هذه الحال رمزيةٌ للزمن؛ إذ أنّ الشعر بالنسبة للشاعر جليّ السر كالزمن تمامًا، يمضي فنمضي معه علّه يُفصح سرًّا، وكما الزمن فإن الشعر عميقٌ عمق الكون، في أعماقه نستشرفُ كل ما يُمكن أن تُخفيه الذات الإنسانية بكلّ اختلافاتها وهواجسها وكأنّ الشاعر "عبدالله بيلا" بهذه الرمزية أراد أن يُذكّرنا بالذات الإنسانية بكل حالاتها المُتقلّبة المتأرجحة بين التوازن والاضطراب، بين الفرح والحزن وكلّ ما ينتج عنها من نزعاتٍ نفسيةٍ وتناقضاتٍ تخضع إلى سلطةٍ عليا تمثّلت في "الزمن"/ "الوقت" المسؤول عن هذه الثنائيات التي تتشظّى في داخل الذات الإنسانية ويُجبَر فيها على الإبحار في بحر الحياة ويمضي في لجّها حتى يدركه الموت. عند هذا الحدّ، يمكن أن نؤكّدَ أن شعر "عبدالله بيلا" باعتباره تعبيرًا عن تجربةٍ، تبدأ ذاتية وتنتهي إنسانية، تنقلُ تجربة وعي الشاعر الإنساني بمفردات الحياة والواقع وقد استطاع "بيلا" مُتأمّلًا الكون ببصيرة العارف، مُحاولًا إيجاد الأجوبة المناسبة لأسئلةٍ كونيةٍ مُلحّة في محاولةٍ لاكتشاف ذاته من خلال اكتشاف العالم المحيط به أن يؤكّدَ على أهمية الشعر في حياتنا وعلى دور الشاعر بنقل تجربته الخاصة ومكامن روحه ليُؤثر بصدق شعوره في قلب القارئ وهنا يكمنُ الإبداع الشعري لدي الشاعر "عبدالله بيلا" وكأنما اللغة أصبحت ساقيةً رقراقةً تنسابُ فيها الكلمات حُرّةً من كلّ قيدٍ فور تدفّقها من نبع ذاته.
الكاتب: ميساء هاشم
2المفضلة
91 المشاهدات
2 تعليقات