المذياع... ذاكرة الزمان وصوت القلب
Feb 6, 2025 10:03 AM Feb 6, 2025 10:03 AM
كان للمذياع في حياتي أثرٌ لا تمحوه الأيام، كرفيقٍ قديم ينسج بين نبضاته إيقاع الطفولة والمراهقة، فتظل أصداؤه تنبض في أعماقي مهما تبدلت الفصول وتغيرت الوجوه. كنتُ في السابعة من عمري حين اعتدتُ أن يتردد في أرجاء بيتنا بعد صلاة الجمعة صوتُ النقشبندي، وهو يناجي: "مولاي إني ببابك قد بسطت يدي.."، فتأخذني تلك الأنغام إلى عالمٍ آخر، وأنا أرتب الأطباق مع أمي فوق المائدة، بينما أبي يعود من خطبته متعبًا، لكن لا يمنعه إرهاقه من أن يمنحني لحظةً من طفولتي المليئة بالبهجة. كنت أركض إليه، أعتلي ظهره ضاحكةً، وهو يسير بي في أرجاء البيت، بينما يشرح لي معنى الكلمات التي كنت أحفظها دون أن أفهم عمقها بعد. كانت لحظاتٍ تمتزج فيها الطفولة بالسكينة، حيث يتداخل صوت المديح مع ضحكاتنا، ورائحة الطعام الساخن مع دفء العائلة. ومع مرور الأعوام، كبر معي المذياع، وصرتُ أضبط وقتي على صوته. الساعة الثانية ظهرًا كانت تعني "طلائع الإيمان"، حيث أنصتُ إلى أصوات الأطفال وهم يقرؤون القرآن، فأشعر أنني واحدةٌ منهم، أردد معهم، وأحفظ الآيات دون أن أشعر. ثم جاءت الثامنة صباحًا موعدًا لا يُفوَّت مع الشعراوي، ذلك الصوت الذي يحمل في نبراته نورًا يخترق القلب قبل العقل، يفسر الآيات ببساطةٍ تلامس الروح. كنت أتوق إلى كلماته، لكن أيام المدرسة كانت تسلبني هذا اللقاء، فأرحل وفي القلب شوقٌ مؤجلٌ إلى العطل والإجازات حيث أستعيد مكاني أمام المذياع. كبرتُ أكثر، وصارت الدقيقة الفقهية جزءًا من إيقاع يومي. كل ساعةٍ كنت أترقب سؤالًا فقهيًا وإجابةً تفتح لي نافذةً صغيرةً على عالمٍ واسعٍ من العلم، حتى بلغتُ المرحلة الثانوية، فأصبحتُ من رواد "حديث الصباح" للشيخ أحمد عمر هاشم، حيث يأخذني في رحلةٍ يوميةٍ مع حديثٍ نبويٍّ جديد. حينها بدأ شغفي بعلم الحديث يتفتح، حتى حفظت الأربعين النووية وحدي، وانطلقتُ في رياض الصالحين، أتنقل بين صفحاته كمن وجد كنزًا لم يكن يعلم بوجوده من قبل. لكن الأيام ليست دائمًا كريمةً بذكرياتها، فقبل ثلاثة أشهر، صمت الراديو فجأة. حملناه إلى مصلح الأجهزة، لكن يده عجزت عن إعادته للحياة، وكأنه قرر أن يأخذ استراحةً لا عودة منها. بقي متروكًا في ركنٍ بعيد، بينما كنت في غربتي أُصغي إلى إذاعة القرآن الكريم عبر هاتفي، لكن شيئًا ما كان ينقصني… ليس الصوت فقط، بل روح الذكرى، ورائحة الأيام التي خطَّها في وجداني. واليوم… عاد المذياع! أصلحه أخي، وعادت معه كل الذكريات دفعةً واحدة. شعرتُ وكأن طفولتي بأكملها قد عادت، وكأن صوت النقشبندي ما زال يصدح، وكأن يد أبي لا تزال تحملني في أرجاء البيت، وكأن صوت الشعراوي يملأ صباحات الجمعة كما كان دائمًا. أدركتُ حينها أن المذياع لم يكن مجرد آلةٍ تُصدر صوتًا، بل كان معلّمًا، ورفيقًا، وشاهدًا على رحلةٍ امتدت بين الطفولة والنضج، بين الضحكة الأولى والحلم الذي بدأ يتشكل. إنها الذكريات، تسكن الأشياء التي ألفناها، وتنبض حتى في أزرار المذياع، تحكي لنا أننا مهما ابتعدنا، هناك دومًا صوتٌ يعيدنا إلى حيث بدأنا… إلى حيث كنّا نحن، بقلوبٍ صغيرة، وأحلامٍ كبيرة.
الكاتب: بـسمـلـة مـديـن
0المفضلة
8 المشاهدات
0 تعليقات